-1-
يشير عليّ درويش في كتابه "يوميات الحزن العادي" ضمن ما أشار من موسيقى تشايكوفسكي، بقراءة رواية الحرية او الموت لكزانتزاكس، تلك الرواية التي اقتنيتها منذ شهرين تقريبا اثناء امتحاناتي من مكتبة الهيئة بالجامعة، حيث أحب أن اذهب كلما توفر لدي وقت في انتظار زميلاتي، ووضعتها على الرف بين كتبه الأخرى التي تنتظر حنوي عليها، وبغشارة درويش تلك حدت عن خطتي التي رسمتها للقراءة ، ولكن لابأس، لو كان ذلك يعيدني ثانية لأصدقائي الكتب الذين لم يتسن لي كثير من الوقت مؤخرًا في صحبتهم.
ومن سخرية الأمر أنني أقرأ فقرات كاملة لكزانتزاكس كالتالية:
"يقول لنفسه وكأنه يهذي:"إنني أتهم الله.. أتهمه بأنه لم يمنح أبناء كريت أجسادًا من فولاذ تمكنهم من الصمود مائة عام أو مائتين أو حتى ثلاثة حتى تحرر كريت..وبعدها ليكن ما يكون..حتى ولو تحولنا إلى تراب أو رماد"
أو كالتالية أيضًا:
وغمغم الكابتن "ميخايليس" وهو يلكز مهرته:" أيتها المنبوذة كريت! كم من الأجيال انقضت وأنت تبكين أيتها الأرض سيئة الحظ..ومن ذا الذي استمع إلى بكائك؟ حتى الرب محتاج إلى تهديد لكي يصنع معجزته ..إن الأقوياء فوق هذه الأرض يحتاجون إلى تهديد جيد..اقبض بيدك بندقيتك أيها الأحمق، فهي وحدها التي ستصبح الموسكوفيين المنقذين! ..ولا شئ غيرها!.....
والله أيضا -وهو أعلى من كل بشر- لابد أن يرى نفس المشهد إذا لم يكن سبحانه قد نسى كريت أجيالًا وراء أجيال وأسلمها روحا وجسدًا إلى أيدي الأتراك!
لا.. بل أسلم الجسد فحسب، فقد قاوم الكريتيون، وغلوا دائما بالغضب..ورفضوا أن يضعوا خاتمهم تحت خاتم الله! فلم يكن ذلك من العدل في شئ! ورفعوا أيديهم إلى السماء وصاحوا" ظلم!" ووطنوا أنفسهم كمسييحيين طيبين على أن يرفعوا ذلك الظلم الإلهي الذي لايحتمل، والله ذاته محارب أيضًا..أيكون مشغولًا عنهم لأنه يدير حربًا في مكان ما، فوق كوكب ما، ضد أتراك آخرين؟!..لسوف نظل نناديه سبحانه حتى يسمعنا"
ماذا لو عدلنا النص فبدلًا من كل كلمة تشير غلى كريت نضع فلسطين، حينها ربما أشعر أن قائل هذه العبارات هو درويش عن محبوبته فلسطين، لا يبدو ذلك بعيدًا خاصة وهو القائل في مديح الظل العالي القصيدة المستوحاة بشكل ما خفي علي من بورخيس:
سقط القناعُ
عَرَبٌ أَطاعوا رُومَهم
عَرَبٌ وبارعوا رُوْحَهُم
عَرَبٌ.. وضاعوا
سَقَطَ القناعُ
والله غَمَّسَ باسمك البحريِّ أَسبوعَ الولادةِ واستراحَ الى الأَبَدْ
كُنْ أنتَ. كُنْ حتى تكونْ !
لا ... لا أَحَدْ
يا خالقي في هذه الساعاتِ من عَدَمٍ تَجَلَّ!
لعلَّ لي حُلُماً لأَعْبدَهُ
لَعَلَّ!
يأسرني كازنتزاكس بوصفه الجسدي الدقيق للأشخاص وتحليله النفسي السريع لهم من خلاله،أتساءل كيف يمكن ان يصفني كازنتزاكس؟
ربما يشق عليه الأمر، وربما يشق عليّ أنا تخيل ذلك، لأن جسدي لا يثبت على حال من السمنة والنحافة مؤخرًا، كلا الحالتين تثير اكتئابي ، فأسعى إلى الحالة التي تناقض حالتي، ووجهي لا يبين ما يعتمل بذاتي القلقة، أنا نفسي يصعب علي كثيرًا فهم كيف تحجب ابتساماتي في الصور أفكاري وذاتي ، وضيقي وثوراتي وكل شئ!
تمحو الابتسامة كل شئ، وحتى دونها لا ستطيع أحد أن يقرأ قسماتي التي تبخل بالتعبير عن حالتي، فهي محايدة جامدة في أغلب الأحوال!
فلنقل أنني لست مع كازنتزاكس على طول الخط هنالك ما يكتبه ويناقض افكاري، ولكن هل أصل في نهاية هذه الرواية إلى النتيجة التي وصل لها درويش؟
فلا أحرر نفسي؟ ولا أموت؟
-2-
ترشح لي أماني فيلمًا، ربما يحفزني على العمل على روايتي التي لم أنجز فيها سوى عنوانها والثيمات العريضة والقضايا التي اريد طرحها، محذرة أنني لن أحب أن أكون كالكالتب في الفيلم، وفعلًا لا أحب أن أكونه بأي حال من الأحوال!
هو الكاتب الذي يجد عرضًا نصًا لرواية فاتنة مجهولة المؤلف وغير منشورة، يتقرها على حاسوبه حيث تعثر عليها زوجته عرضًا أيضًا وتثني على إبداعه فيها، وأنها أفضل ما كتب وأنها واجبة النشر، لكن نظرة عينيها أسرته ورضخ لها، هو الذي لاقت روايته الرفض من الناشرين اصبح مشهورًا بفعل رواية لم يكتبها، يقابله عجوز يطلب منه سماع قصته وكتابتها ولا يرضخ له إلا حين يعرف أنه مؤلف الرواية المسروقة، وفي نهاية قصته قال له :
عبارته تلك حقيقية جدًا، وهي أيضًا سبب مباشر
لأغلب الآلام التي تعرض لها هذا العجوز، والتي تعرض لها الشاب فيما بعد في سيرته
كإنسان في المقام الأول، لأن الخطأ الذي ارتكبه جعله يخسر كل ما أحب بالفعل في
مقابل نجاحه وشهرته!
المهم يؤنب الشاب ضميره حين يكتشف أن للرواية
صاحبًا، ويعترف لزوجته بالحقيقة، وكذا لناشره، ولا يدعمان قراره بمحو اسمه عن
الرواية بإدعاء أن هذا كله لن يجلب سوى المتاعب!
لكن كانت هذه ربما بداية فقده لحب حياته..
هل قلت أن الراوي هنا هو كاتب يقرأ نصُا من
رواية تحمل عنوان الفيلم The Words?
الراوية يقرأ النص عن الشاب والعجوز في حفل
توقيع وقراءة لروايته وتشك حينها أنه هو الكاتب الشاب بعد أن ولت أيام شبابه،
ولايشعر بأي ذنب عما حدث في الماضي بل ويتبنى نظرية العجوز لذلك كتب تلك الرواية
كاعتراف منه بحقيقة ما حدث، أو كتكفير عنه، نيته ليست واضحة تمامًا، أنا هنا أخمن،
ويؤكد على الفكرة التي طرحها العجوز للشاب والتي تتلخص في أن كل انسان يقوم
باختياراته ويتحمل نتائجها، فهو ابتعد بكامل ارادته عن المرأة التي أحبها بعد أن
جرحها! ، ورغم اننا نلمح نظرة اللامصدق لهذه الفكرة في عيون الشاب، إلا أنه يكرر
طرحها حينما يكبر!
وهي فكرة ضايقتني، الكلمات حقيقية جدًا، إنما
الاختيارات!
أي اختيارات تلك التي يباركونها/ اختيارات أن
تجرح الآخرين وتوجعهم في الفقد؟
والأسوأ هو اعتراف العجوز في اللقاء الثاني
الذي حرص عليه الشاب، أنه آثر الخيال الذي كتبه في روايته، على المرأة الحقيقية
الوحيدة التي أحبها والتي تسببت في ضياع روايته!
ويعدها يقول أنه رآها نرة بعدها بسنوات وكانت سعيدة مع زوج آخر وطفل آخر وقد آلمه ذلك!
ونجد أن الراوي يحدث الفتاة الشابة التي
التقاها في الحفل بعكس هذا المنطق بعد أن اختبر في شبابه منطق العجوز، يسألها: هل
تفضلين الخيال على الواقع؟
الفتاة ترددت لأنها تفضل الخيال والمثالية
على الواقع، وأنه قد اختار وتحمل نتيجة اختياراته!
ليست
المشكلة في النهاية، بل المنطق المخالف للمنطقي الذي ربما يتصرف بموجبه بعض
الأشخاص، لا أجد
لدي قدرة على أي شئ بعد فيلم مماثل سوى البكاء!
-3-
تفاجئني أنغام بأغنية أكتشفها لأول مرة عرضا على ساوندكلاود، الكلمات التي ربما وددت قولها منذ عام ونصف، بينما لم أستطع قول اي شئ، الايماء هو ما أجيد فعله ، ناهيك عن التذمر وغيره من الانفعالات العجيبة، كل الانفعالات التي لم يبق منها أي شئ وراء وجه جامد، وقلب لا كنه له: تقول:
يا حبيبى... يا حبيبى ...يا حبـــــــــــــيبى قد عمرى قولتها لك وانت جنبى ببقى لسة مشتقالك
ما انت عارف ..انت سامع انة الليل والشوارع
كل حبة رمل بتقولك حرام ..حرام ..اتحرم حضن الخطاوى وفين انا
والطريق مايل بحمله من العتاب..والنسيم حس بفراقك سحره بان
كل حاجة رافضة بعدك مش هتفضل هى بعدك
صعب اصدق
لو ضرورى تفوتنى خد مني الحنين واختصر بعد السنة خليه يومين
لو ضرورى قبل ما تسافر بعمرى اسجن الشوق والمنى واطلق الصبر فى وريدى قبل ما يطول بعدنا
لو ضرورى حتـــــــــــــــى لوطـــــــــــــــــــــال بعدناحتى لو طـــــــــــــــال بعدنا
انت هنا
وربما يرجعني هذا إلى مربع الخيال ولكن من ينكر: ولكم في الخيال حياة يا أولي الأباب!
-4-
الفيلم والأغنية تجعلني أفكر في أشياء كثيرة تبدو غير مترابطة:
كالفتاة سيليا التي هجرها العجوز في نوبة حزنه على ابنته وروايته، الأكيد أنها شعرت بأضعاف أشعاف الألم الذي كان موجودًا من
الأساس، لكن كيف استطاعت بناء حياة جديدة سعيدة كما بدا عليها؟
هل كان هذا اختيارها مقابل اختيار زوجها القاسي والمجحف لهما معًا!
أتذكر فجأة الحب في زمن الكوليرا، وأحاول تذكر سبب الخلاف بين المحبين في شبابهم ولا أذكر شيئًا، يدي لا تمتد للرواية رغم أن هذا السؤال ليس جديدًا، طرحته مرة منذ سنة ، وأشفقت على نفسي معرفة الاجابة!
لازال الخيال والواقع يتصارعان، لا يفوز أخدهما على الآخر، فقط الأسئلة والمزيد منها، بينما يمر الزمن.