كان يومًا عجيبًا غريبًا مريبًا، بدأ بإن أقلتني سيارة أجرة للمحطة، فاجأني السائق حين توجهت للمقعد الخلفي بأن اجلسي هنا في الأمام، وحين فتحت الباب الأمامي انتبهت أن المقعد الأمامي قطعة واحدة كالأريكة، ارتبت خاصة والساعة لم تجاوز السابعة صباحًا، بيد أن مظهر السائق وكلماته طمانتني، كان كهلًا يرتدي جلباب خاكي اللون وقبعة تشبه قبعات الاندونيسيين، وله لحية بيضاء خفيفة، حين ألقيت عليه السلام، لم يكتف بالرد بل زاد عليه قائلًا: "ربنا يحنن عليكي يا قلبي، وييسر لك الخير..وكل سنة وانتس طيبة..." وكلمات دعائية أخرى لا أذكرها، فقط علق بذهني ما قاله عند وصولي وجهتي:" تروحي وترجعي بالسلامة وربنا ييسر لك الخير"..وددت حينها لو سألته هل تعرف إلى أين أنا ذاهبة، وعلام أنا مقدمة في الأيام القادمة، لكن السكينة التي استشعرتها كانت أعمق من أن أتعطل وأروي فضولي، وجدت القطار في انتظاري على الرصيف، جلست في كرسيّ الذي كان قد ضبطه أحدهم ليواجه الصف السابق له فيجلس الأربعة متواجهين، وهكذا صرت أرى الصفوف التي كان من المفترض أن تكون خلفي وصارت أمامي، وصرت أرى بوضوح السيدة التي تجلس وأطفالها في أول صف بالعربة حيث يفصل بيني وبينها صفان، تعجبت من خواء العربة من المسافرين، وتذكرت أن الكثير من الناس اعتبروا باقي الاسبوع متممًا لأجازة العيد، وتوجست أن هذا ربما يعطل مصلحتي اليوم، لكن التهيت بالكتاب الممل الذي كنت أشرد كثيرًا أثناء مطالعته، وإحدى شروداتي كانت بسبب ما تناهى إلى سمعي من ترتيل ابن السيدة السالفة الذكر قائلًا:" وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا" أظن أنه يرتل يس، لكن ما تلاه فيما بعد كان دعاء من كان مقدمًا على أمر جلل، تذكرت السائق، وقلت لنفسي:" الله يجري رسائله لكِ على ألسنة عباده" وكنت لحظتها أرمق الطفل بعجب نبه أمه فطلبت منه أن يخفض صوته، بينما أخبرته أن دعيه، أكمل الفتى ترتيله الذي لم يصلني منه شئ بعدها، والتهيت بكتابي مرة أخرى إلى أن انتبهت ونحن على مشارف القاهرة أن السيدة غادرت، وأن القطار أخرني عما توقعت، وإن كنت لم أعد أتذمر بشأن الأمر، وصلت وجهتي القريبة من ضريح سعد حيث لم استطع سوى الاشارة اليه والدعاء، وبعد المرور على أكثر من موظف أدركت أن لا شئ يمكنهم تقديمه لي، وعليّ العودة فورًا لطنطا حيث الكثير من الاجراءات التي لابد أن أنهيها اليوم، كنت قد وصلت المحطة قبل نصف ساعة كاملة من موعد أول قطار، وكالعادة دلفت إلى ألف، ووقفت بعدها أتأمل اللوحة التي لابد أن تعلن عن وصول القطار لتعلن عن تأخرع ربع ساعة كاملة وبسؤالي عرفت أنه قطار الصعيد،ودومًا قطارات الصعيد تتأخر أكثر من ربع ساعة،والبديل الذي أعلنته الشاشة كان قطار غير مكيف وتوقيته هو ذات توقيت القطار بعد التأخر المفترض، انتظرت لخمس دقائق قبل الموعد، وحين لم أجد بدًا من عودتي الفورية توجهت للقطار الذي أكره، وليست المشكلة في طقس هذا القطار بل رائحته،وسلوك من يركبونه، كان أبي قد حثني طوال سنوات سفري على ركوبها بديلًا على الانتظار، وآخر مرة سافر فيها وحده للقاهرة ركب أحدها وأنا أخبرته أنه سيدفع غرامة كبيرة لي إذا ركبه مرة أخرى، لأنها غير انسانية بالمرة!، وفي طريقي للقطار تذكرت كل ذلك، وأنني حين أحكي عما حدث سيسخر مني وينتقم، وقبل أن أصل للقطار أنقذتني الاذاعة الداخلية التي أعلنت وصول القطار الكتأخر على رصيف آخر، هرعت إليه وأنا أحمد الله، خاصة بعد ان اكتشفت أن القطار لن يقف سوى في طنطا مما يعني أنني ساصل في غضون ساعة واحدة، وبين القراءة والتفكير فيما يجب أن أفعل، وطنت نفسي على أنه لن يسير كل شئ بالسلاسة التي أتخيلها، لابد سيكون هناك معرقلًا ما، لكنني سأحاول الوصول لمرحلة بعينها هي هدفي المنشود في الساعتين المتبقيتين من يوم العمل، صحيح ان الزحام اشتد بالفعل وعلي الذهاب للمشفى لأحصل على أول خيط اجراءاتي كانت زميلة عزيزة أعدته لي بينما أنا في رحلة العودة، لأهرع إلى المصالح الأعلى ليوافقوا على طلبي، مشى كل شئ بسلاسة تامة ، وبقيت لي خطوتين على هدفي،وهي بين مصلحتين في منطقتين مختلفتين، يخاطبان بعضهما، ووعدت من المفترض أن يكون الأخير أنني لن أستغرق أكثر من نصف ساعة قبل أن أعود له، كان واثقًا انني لن أنهي أوراقي اليوم، وكنت واثقة انني سأحاول أقصى طاقتي، وهكذا عدت للموظف المسئول حين لمحني اخذ يبحث عن شئ على المكتب أمامه، وأنا أسأله عم تبحث؟ ولايجيب، فتح درج مكتبه وظل يبحث،ثم أغلقه/ وعاد للبحث على المكتب أشرت له على عويناته والمحمول والقلم، ولم يكن هناك شيء آخر، حتى أخرج الولاعة واشعل بها سبرتاية صغيرة تحت المكتب لعمل القهوة معللًا: "أصلي مشربتش قهوة من ساعة الصبح" ابتسمت مغمغمة أنني أفهم الشعور، أحالني بعدها لأقسام اخرى لتوقيعات ضرورية اتممتها جميعًا في عشر دقائق وعدت لأجده يقلب قهوة جديدة، تعجبت وسألته :"لسه معملتهاش؟" قال:"لا دي واحدة تانية اصل مديري طمع فيها" وراجع الأوراق ثم بدأ يكتب الورقة التي أنتظرها، ليكتب "محمد جلال الديم" لم أعلق حتى سألني عن الجامعة التي أدرس بها فقلت :"أنا مش محمد، أنا داليا واضح انك محتاج قهوة فعلا"، غير الورقة ليخظئ في اسم الجامعة الذي أمليته بوضوح، ليغير الورقة ثانية، العجيب أنه لم يبد عليه أي أثر للشرود أو قلة التركيز، حتى أخيرًا أنهى الورقة ووقع عليها وطلب مني أن أوقعها من مديره وأعود له، وكان المدير على وشك التوقيع لولا أنه منعه لأنه يشك في أمر شيء وأخذ الأوراق جميعًا معه!
عدت لأسأله عن الأمر تعلل بأنه بحاجة لأصل ورقة ما، واستعان بزميلة له وأكدت الأمر، قلت لها أنني سأحرص على أن يصلهم الأصل يوم الأحد على أن يتموا لي الأوراق الآن، لكن لاحياة لمن تنادي، أخرج ثائرة بينما زميل لي لا أستبشر به إطلاقًا يحاول تهدئتي ، شكرته في حدة لأحادث أمي في الهاتف، حكيت لها ما حدث وبينما افعل سألتني عجوز ما لطيفة عمن يتولى مصلحتي، شكرتها لأنني سانهي الأمر اليوم كما ظننت، في حين اشارت عليّ أمي بالرجوع لموظفة تعرفها ربما تيسر الأمر وتضمنني لديهم لحين حضور الأصل الأحد، وحين لم يبد هناك بديلًا عن ذلك قررت الرحيل، وترك مجمل الأمرلأمي فهي تعمل بالمكان وما عطلها عني غير اجتماع ما هام، لقيتني العجوز وأنا أهم بالرحيل، فأوقفتني وقالت: لو أستاذ أحمد راضيه هو مش بييجي غير بكدة، أنا بنتي زيك كده فضلت سنتين مدوخها ع الورق وجبنا ناس كبار هنا ومفيش فايدة " وفي تلك اللحظة خرج ابنها الذي كان ينهي أوراق أخته/ فالتفتت اليه :"قول لها عن أ أحمد" فال ببساطة "دخنا سنتين لحد ما راضيته" ، سألته:"وعملت كده ازاي؟" قال:"مرة سلمت عليه والتانية فتح الدرج" ..قالت أمه:"استني شوية لما الدنيا تهدى واقعدي جنبه وراضيه وهو يخلص" ورحلا، بينما أتذكر آخر عبارة قالها قبل أن أغادر المكتب:"كده القهوة بقت مضبوطة!" ..حين راجعت كل الأحداث اكتشفت غبائي الشديد، لقد فتح الدرج ولمح للقهوة، وأنا جاريته بحسن نية متناهية ولاعلاقة لها إطلاقًا بقهوته، لقد أخطأ متعمدًا مرتين في الأوراق لأخرج الأموال، لكنني كنت أصحح له بتلقائية شديدة وثقة، جعلته يظن أنني لن أخرج الأموال إلا حين ينهي الأمر برمته لذلك تراجع وعطل كل شيء، بينما أنا ثائرة وغبية ولن أجاريه أبدًا حتى لو كنت أكثر ذكاء!
وأنا في طريقي للقاء الصديقة لم يسعني سوى التفكير في أن هذا ربما ذنب راكب القطار النائم في مقعد ما في الصف الذي أمامي والذي أشار للكمسري أن وجهته طنطا، وحين وصولنا ارددت أن أوقظه، ولم أوقظه وتركت العربة وأنا متسامحة كليًا مع فكرة أنه بسببي ذاهب للاسكندرية، فلن يتوقف القطار إلا هناك!
أنا مدركة أن كل تأخر هو خير، لذلك فلا بأس، كل القضية أنني أحب أن أنهي أموري كلها بنفسي، ولكن ربما حدث كل ذلك لعلة. وضايقني انفعالي الزائد الذي فاجأ الصديقة وقضى على تركيزي معها تمامًا، لأعود دومًا لنفس القصة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق