الأحد، ديسمبر 02، 2018

نوفمبر الميلاد / الموت

ألمحه هذا الصباح في طريقي لشراء إفطار سريع
كلب شارع منهمك كلية في تمزيق أحشاء قطة نافقة بمسنون أنيابه
مشهد طبيعي، فالقطة إفطاره كما أن الفول إفطاري، لكن هذا المشهد مع كان يعتمل في دماغي من ثنائية الميلاد الموت ونوفمبر، الشهر الذي أحتفل فيه بمولدي، كان قاسيا، لا تدور في ذهني أسئلة من نوع: هل طاردها إلى أن صارت إفطاره؟ هل استسلمت أم حاربت؟، هل دهستها إحدى السيارات المارقة في شارع عبد الخالق ثروت؟ كل هذه الأسئلة تقفز في ذهني الآن بينما أنهي إفطاري وأنقر هذه الكلمات، المشهد طبيعي كطبيعية كل ما حدث في نوفمبر، كأن أتلقى خبر مرض احتجاز أبي بالمشفى وأنا في القطار إلى طنطا في أول أيام عامي الجديد، لأنشغل بأسئلة مثل ماذا حدث؟ ولم لم يخبرونني منذ بدأت الأعراض تزوره؟ 
يقلني أخي من المحطة ويحكي لي كل ما فاتني طيلة أسبوع مرضه، هكذا وصته أمي لئلا أهلع حين أراه، لكن كل هذا لا يغني عن الهلع، وكيف لا وأنا أراه يتلوى من الألم بينما جمع غفير من الأهل والأصدقاء يتحلقون حوله، ويؤلمه أكثر أنهم يتحلقون حوله وهو في هذه الحالة، أحتال وإخوتي كثيرا لنصرف الجمع، بلا جدوى، ويمر الوقت ثقيلا في انتظار الطبيبة التي ستحدد الخطوة التالية، أمسك دموعي لأن انهياري في تلك اللحظة لن يولد إلا مزيد من الألم له، أربت على كتفه، يعنفني بمزحة ساخرة: "هو أنا قطة، هتطبطبي عليها"، أعرف أن هذا هو الألم يتكلم، فهو لا يحتمل حتى لمستي الحنونة، لكنه يقدرها، يكسر حدة الموقف لنضحك جميعا بينما لا يزال يتلوى من الألم، تصل الطبيبة وتقرر أن يجري عملية جراحية، في الحادية عشر ليلا يدلف إلي غرفة العمليات، وأنتظر وأخي وابن عمي في غرفة ملحقة بالعمليات الأخبار، يتحدثان عن عفش السيارات ويذكرون أجزاء منها لا علم لي بها، يسرون وقت الانتظار الممض، وأنا أسريه بالنظر إلى هاتفي والاستجابة لرسائل لها علاقة بالعمل، يخرج طبيب التخدير شاحب الوجه ليجدنا جالسون فيعود إلي داخل غرفة العمليات، يعتمل القلق داخلي أكثر، فكأنما شهد كارثة حقيقية بالداخل وهرع للداخل لئلا يضطر لمشاركة أي شيء، يطول الوقت، مما يثير ارتباكي، لا يستغرق استئصال الزائدة الدودية كل هذا الوقت، ثم هذا الممرض الذي يغادر غرفة العمليات ليعود حاملا أشياء أكاد أجزم أن ليس لها علاقة بالعملية، نعرف بكل شيء لاحقا، أحمد الله على كرمه، فلولا سلسلة الآلام لما عرفنا شيئا عن الجلطة حديثة التكون، نطمئن على سلامته بينما تتجاوز الساعة الواحدة والنصف ليلا، نغادر المشفى لنترك أخي الصغير ساهرا جواره، بينما تقول لي أمي: آسفة أن يمر اليوم هكذا دون احتفال، وفي هذا الظرف العجيب، أبتسم وأغمغم شيئا لا أذكره الآن، لكنني أذكر أن العام الماضي لم يختلف كثيرا، فقد قضيت يوم ميلادي مع صديقتي ليقرر الطبيب مصير طفل في رحمها، ويخبرها أن هذا الطفل سيقتلها لا محالة، إما حالا أو أثناء الولادة، أنا منتبهة للإشارة التي يبعثها الله لي في كل عام في ذات الموعد، منتبهة، وهذا لا يعني أنني أحاول موازنة الاستمتاع بالحياة بينما الموت يحوم حولي وحول من أحب، تخبرني أمي صبيحة اليوم التالي: أنني كنت حيوية جدا في اليوم السابق كما لو أنني كنت مرتاحة جدا ولم يرهقني عمل ولا سفر، أبتسم لأذكرها أنني قضيت يوم مولدي إجازة استرحت بعضها واستمتعت بعضها، فكان تعب الأسبوع قد تسرب، وأحكي لها عن اليوم الطويل الذي قضيته في إجتماع بائس طويل قبيل أن أستقل القطار إليهم ، لكنني غالبا أعيش كالشجرة السامقة التي تطل عليها غرفتي والتي تأملتها جمعة عيد الشكر، كانت أغصانها تهتز للريح العاصفة والأمطار التي كانت في ذلك اليوم، بينما أنا أرقد في سريري مستسلمة لدور الانفلونزا ومستريحة بعد عناء ترتيبات اليوم السابق، كانت الشجرة تحكي لي قصص ساكنيها من الأفرع المختلفة، فهذا الفرع عجوز يراقب الفروع الأصغر سنا وهي تجري لاهية في مهب الريح، أما الفرع الأب والأم فكانوا يراقبون الأجواء في صمت مستكين مستمتع بالحياة التي تعامل حولهم، هل علي أن أقف كتلك الشجرة وأراقب في صمت حنون؟  حقيقة في ذلك اليوم  والأسبوع الذي تلاها أتحين كل فرصة للانتباه لحديث الأشجار في كل الطرق.، أدرك وأنا أحكي  لها أن عمر السعادة ساعات معدودة ثم تحدث الحياة، تماما كما حدث في آخر أيام نوفمبر، فشدت سعاد ماسي في الأسود الذي لاق بها في عذوبة لا مثيل لها، بعض الهنات نعم، لكن البهاء لا يخفى، أعود للمنزل لأجد الباب مفتوحا ولا يتسكر، ورفيقتا السكن نائمتان، أعمل الترباس، فليس منطقيا أن أخابر أخي ليعود أدراجه، ثم يعود ليفعل ماذابعد منتصف الليل،  وأنا أغمغم الصباح رباح، ويأتي الصباح حاملا صراعات كثيرة في العمل، ليتأكد لي في كل لحظة: أن السعادة ساعات معدودة علي اقتناصها كما أن علي اختيار معاركي، منتبهة أيضا أنني في بدء نوفمبر كنت سأحكي عن كيف تقهرنا القاهرة ، المدينة التي تقهر كل من تطأ قدماه ترابها أو هكذا كنت أظن، ما ذنب المدينة على أية حال؟ أنا مدركة الآن أننا نقهر أنفسنا ونقهر بَعضُنَا بعضا عن قصد أو دون، في مشهد لا يقل طبيعية وقسوة عن مشهد الصباح،  وهكذا علي أن أعيش كقطة بسبع أرواح حتى يخطفني الموت في لحظة ما، وربما يسحبني بعدها كلب في زقاق جانبي ليتغذى على جثتي في مشهد طبيعي كما رأيت اليوم، 

ليست هناك تعليقات: