متى بدأت الحكاية مع الجنية؟
هذا سؤال لا تسعفني ذاكرتي السمكة على إجابته، كل ما أعرف أننا اعتدنا التصييف في مطروح منذ طفولتنا، ارتدنا شواطئ أخرى بالطبع كفايد، رأس البر، برج العرب على سبيل المثال، لكن جنية مطروح ظلت تدعونا كل حين لزيارتها، وهكذا عدنا هذا العام لتلبية ندائها، قضيت أغلب يومي الأول نائمة، كما لو كنت أتخلى عن كل إرهاق القاهرة وضيق طنطا، في اليوم الثاني، قضيت أغلب الوقت في صحبة البحر لحتى اكتسب وجهي حمرة طبيعية، وكذا يدي، وبت أعيد على نفسي أنني سأعود للمدينتين اللتين تركتهما بوجه جديد، وجه لفحته الشمس وأكسبته شيئا من صفاتها: الوهج، ربما أفلسف الأمر أكثر من اللازم، ولكن هكذا أحب أن أفكر، أن أغزل من أصغر الأشياء معان أضفيها على حياتي، فالوجه الجديد يناسب الوظيفة التي أوشك على بدئها وعلى البداية الجديدة، تمامًا كما فعلت قبيل عودتي من أمريكا، حين صبغت شعري للمرة الأولى في حياتي بخصل خضراء، مدعية أنني أعطي نفسي دفعة جديدة (Head Start)، وقد كان، ومنذ شهرين حين اقتنيت العوينات الجديدة، اخترتها واسعة ومبهجة لكي أرى العالم من منظور جديد، وقد كان، تذكرني لفحة الشمس بذكرى بعينها من الطفولة هنا بمطروح، لا أبرح البحر في أول أيام المصيف، تحرقني الشمس ولا أبالي حتى اليوم الثاني، أستيقظ وعيوني وارمة لحتى لا أستطيع فتحها، نعود الطبيب الذي ينبئنا أن لدي حساسية من الشمس، وأن الحل الوحيد ألا أرى الشمس بتاتًا ولا أسبح في البحر اللهم إلا ساعة واحدة قبيل الغروب، وأوصاني بإرتداء عوينات حاجبة للشمس، وكنت لم أتجاوز العاشرة بعد، وربما لهذا السبب لم أرتد هذا النوع من العوينات إلا منذ سنوات قريبة، وأوصاني أيضا بقطرة، وكانت أول مرة في حياتي أضطر لاستخدامها، وكنت أخشى دخول القطرة في عيوني، هذا ناهيك عن أني عيوني لم تكن تفتح أساسًا، كنت أتعذب وقتها، فالجميع يستمتعون بالبحر ولا أحظى منه سوى بساعة واحدة، وهي أشدها زحامًا، اليوم كان مختلفًا جدًا، هو شاطئ مختلف عن شاطئ الطفولة، المياه ضحلة جدًا، ظللت أسير قرابة عشر دقائق ولم تتخط المياه كتفي، ونظرًا لطولي فإن هذا لو تعلمون عظيم، لأول مرة أشعر بأنني أوغلت في البحر دون أوغل، شعرت بانتصار ما، ليس على مهارة عندي، شعرت بالأمان، فالمياه هنا أقرب للبحيرة منها للبحر، صافية، ضحلة، مالحة، لكنها ليست كبحيرة أونتاريو، لم أسبح في أونتاريو، تلك الشبيهة ببحر الإسكندرية، كلما عدتها، تذكرت الإسكندرية وشعرت أنني في وطني، أنا الآن هنا في وطني، أقضى إجازة قصيرة محببة مع العائلة، تخبرني أمي أنني أسبح كالكلاب، أبتسم، فهذا ما كنت أقوله في الغربة إذا سألني أحدهم إن كنت أسبح، وقد كان حين ذهبت للتجديف، أتذكر سيلفا، كنا تكلمنا عن الأمر، في أول مرة أجدف فيها في حياتي، كنا على ذات القارب، بينما براء وزين على القارب الآخر، نحاول ضبط إيقاعنا واتجاهنا، كم ضحك منا براء وزين، وكيف لا وقد كنا نتحرك بعشوائية شديدة، أبتسم لأمي بينما كل ذلك يجول بخاطري، وأدرك لوهلة أنني تصالحت أخيرًا مع الكلاب، لم أعد أهابها كما في الماضي، هل استخدام تشبيه سباحتي بهم سبب في ذلك أم تعاملي معهم مؤخرا؟ لا أدري وليس هذا مهما، المهم أنني متصالحة مع تلك الكائنات اللطيفة.
والبحر يحب المزاح، وأخي يحب المزاح، ولا يتفوه بشيء إلا على سبيل السخرية، يقول لي: كم أفسد البشر البحر بتلك الألعاب المائية والموسيقى العجيبة، أضحك منه، لأن حرفيًا الشاطئ لنا وحدنا، لا أحد سوى من الناحية الأخرى البعيدة، يقول لي مازحًا: يستاهلوا السيسي، أفكر برهة قبيل أن أدندن: مايستهلوشي، ونضحك، أخبره أنني أشعر بخفة في المياه، كما لو كانت المياه قد حملت كل ثقل جسدي، كل هواجسي، كل مخاوفي، أدرك كم تغيرت كثيرًا، لا أهاب البحر، لا أهاب الكثير من الكائنات:الكلاب والقطط كأمثلة، لا أهاب البشر، لا أهاب الوحدة، وأستمتع بالحياة.
والآن أتساءل كيف تكتمل حكاية الجنية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق