ليلتها لم يزرني النوم إلى ما بعد الخامسة صباحًا، وأنا أفكر من اين جاءت فكرة كتابة رسالة إلى الله، لم أعثر على بداية الخيط بسهولة، فقط كل هذه الكلمات كانت بداخلي وأكثر، وبدت هذه اللعبة العقلية مسلية وربما تقضي على هذا الأرق السببه الكافيين، كان أول ما تذكرته أنني في يوم قاهري سابق وأثناء توجهي لمحطة المترو أغمغم "يالله" ثم قول درويش "يا خالقي من عدم تجلى لي، تجلى.."، وبالطبع خانتني ذاكرتي فى تذكر أي شئ آخر من قصيدته تلك "مديح الظل العالي، فقط رددت ذات العبارة مرارًا و تكرارًا،وأردت العودة للوراء أكثر فلابد لي أن أعرف كيف ولدت الفكرة، تذكرت أنني يومها في رحلة ذهابي للقاهرة كنت أقرأ من الكتابات النثرية لدرويش، ربما إحساسي أنه أنقذني من حديث الجالسين خلفي فى الدين والسياسة،ومن الجلسة غير المريحة فى الميكروباص،وعن تلك السيارة التى كانت تحمل حروفًا تعبر عن حالتي "ق م أ"، استطاع أن يلهيني عن كل ذلك، لكن هذا أيضًا لا يساعد على تذكر البداية، لست ممن يحفظون الشعر،لكنني تذكرت ما يشبه ما قال، ربما لأنني اعتدت منذ عام سبق وربما أكثر ان أستمع لقصيدته تلك أثناء انهماكي فى بعض الأعمال، لالا ، كان انتباهي لأول مرة لتلك الأبيات تحديدًا كان رمضان الماضي بينما أقرأ الأعمال الشعرية الكاملة لدرويش، وقتها على إحدي الصفحات الفيسبوكية وأثناء ذلك التلاحي الدائم بين البشر،كتب أحدهم أن "درويش ملحد"، واعرف عنه الاسلام،تعجبت القول، عادة لا تهمني تفاصيل كتلك عمن أقرأ لهم، وكانت هذه الأبيات درأ لتلك المقولة، ربما كنت وقتها أيضًا في حالة قريبة مما أمر به هذه الأيام، ربما تلك هي البداية، ربما..
انتبهت بعدها لفكرة عجيبة هي ببساطة أن أقتني سمكة على أن يكون حوضها "Separating funnel"،وتخيلتني أبدل لها المياه من الصنبور السفلي بينما اضيف المياه الجديدة من أعلى،وأدركت حينها أنني ساكون في حاجة لحامل مماثل لما كان يوجد في المعمل،ثم تذكرت شيئًا مهمًا، كيف سأنظف الحوض؟، كنت قد رأيت صديقتي تنظف حوضها ذات مرة،سيتعصي هذا في حالة حوضي، ثم وجدتني اسأل نفسي السؤال الأهم:كيف من الأساس سأدخل السمكة داخل قمع الفصل؟ ،ربما يوجد قمع فصل يسمح بذلك!، وهذا نبهني إلى أن عملية التفكير في أي أمر عجيبة،وعصية على المراقبة والتحليل،فالمنظقي أن أفكر أنني سأقتني سمكة ثم أضعها في الحوض الذي اخترته ثم أنظف الحوض وأبدل المياه، حاولت أن ألعب ثانية لعبة تتبع ميلاد الفكرة بشكل عكسي،لم أفلح،لأن هذه الفكرة تحديدًا قفزت هكذا بدون أي مقدمات، لا أعرف من أين جاءت،والآن لا أذكر ما تبعها إلا أنني استيقظت فزعة فى السادسة صباحًا وتمامًا في الموعد الذي أردته لأستطيع اللحاق بقطاري، لكن تلك الساعة التى نمتها لم ترح بدني،لأعود وأشرب كوب آخر أصغر من النسكافية،وارتدي ملابس حدادي التي لا يميزها احد غيري،وأقضي طوال الطريق بين مفكرتي الجديدة والطريق والهاتف، أصل هناك لتحدث صدفة أقل ما يقال عنها أنها عجيبة، في مدخل المترو أجد فتاة ملامحا تشي بأنني أعرفها،نطقت أول اسم بدر إلى ذهني وسلمت عليها،وهي في ذهولها لم تتذكرني إلا بعد هنيهة،لأعتذر أنني أخطأت اسمها بالاسم التي تكره ان يناديها أحد به، لكنها نبهتني إلى أنها لم تسمع ندائى الأول لها في الأساس،واعتذاري هو ما نبهها، تعرفت على أختها وأمها،ثم مضوا،ومضيت في طريقي، بينما كرة واحدة تسيطر على تفكيري: لماذا يصر لاوعيي على تذكير الآخرين بجروحهم؟، لاأجد اجابة، أستقل المترو،لأنتبه لصوت أحد السيدات التي كانت تتحدث بلهجة غاضبة حانقة ومرتفعة،بدت كأنها تحاور أحدًا لكن الأخرى لم يكن صوتها مسموعًا، وكان بالطبع الحديث في السياسة، كان كل ما تقوله صحيحًا، لكن الغضب الذي كانت تتكلم به يجعلك تشك، وجدت أخرى توجه لي الكلام :وانتي ايه رأيك؟ ،رددت: في ايه؟،قالت: هو انتي مش عايشة؟،ابتسمت وقلت لها :"آه"، تطلعت لحظتها في زجاج الباب ذلك الذي يستخدمه البعض في تصحيح المكياج أو ضبط الحجاب، صورتي المعكوسة على الزجاج كانت تخبرني بأنني بالفعل لست حية،ابتسمت للزومبي في الزجاج،بينما اتابع الحديث الغاضب للسيدة المحقة،التى انصرف انتباهي عنها حين لمحت سوارًا ولأول مرة أعجبني من بائعة جائلة، كان السوار عبارة عن حبات من الخرز كل واحدة منها تمثل أحد ألواني المفضلة، مشكلة معًا ما يشابه قوس قزح، لبسته في لحظتها واتجهت للجامعة، ولم أنتبه إلى تفصليتين هامتين إلا بعد أن جلست فى انتظار ورقة أسئلة اللغة الفرنسية، وكنت الوحيدة التى اخترتها،كان هنالك قلب صغير يتدلي من السوار، عليه نقش لكلمتين،الأولى لا أستطيع تمييوها إلى الآن،والثانية "Paris"،جاءتني ورقتي ومعها غمغم الأستاذ الجامعي:ليه اخترتي المادة دى؟" ،قلت له:دلوقتى بندم،وضحكت بصوت عال، فعزمت على زميلتي التى تجلس أمامي بعلكة،شكرتها فقد كنت أتناول واحدة بالفعل، جاوبت الأسئلة بكلمات يسيرة مفردة محاولة وصلها في جمل لتبدو صحيحة ومفهومة، وبعدها مر مرة أخرى وسألني إن كنت أجيب ،قلت :الكذب خيبة،وفي منتصف الوقت تمامًا وكالعادة سلمت ورقة الاجابة،بينما جمل بعينها بالفرنسية تتردد في ذهني، حين انفردت بذاتي دونتها اولا في ظهر ورقة السئلة ثم في مفكرتي، كان لازال لدي الكثير من الوقت، وعلى الرغم من أن طقوس آخر أيام الامتحانات أن تحتفل ولو مع ذاتك، لكنني لم أجد ذلك مناسبًا، من يحتفل بفشله؟، من يحتفل بخسرانه تحدي ذاته؟،ثم من يحتفي بذكرى خذلانه؟، لذلك اردت أن أقضي الوقت في مكان ليس بالصاخب ولا بالهادئ، لم أجد في ذهني مكانًا مماثلًا، فكانت المحطة ملاذي، وكان درويش ملجأي، كانت كلماته تمس كل الجروح، كما أنه كتب رسائله تلك في باريس في العام السابق لولادتي مباشرة، شعرت حينها أنني وبأكثر من طريقة كنت هناك،في باريس، بدءًا من السوار الذي كان يحمل أكثر من رسالة إلى ذاتي، إلى الكلمات التي كتبتها اعتذارًا من اللغة الفرنسية بالفرنسية،وإلى رسائل درويش إلى سميح بينما كان هو في باريس، وفي أول رسالة منها ذكر اسم كتاب قرأه ،وكنت أنوي اقتناؤه وذكره كان حافزًا إضافيًا لذلك،ففي لحظتها توجهت للألف ،ولكن كالعادة لم اجد الكتاب الذي أريده،لأكمل انتظار القطار برفقته، والذي جاء وركبته وقبل ثانية واحدة من انطلاقه قال الكمساري: القطار سيذهب إلى المنصورة عن طريق الزقازيق،فالذاهبون لطنطا عليهم المغادرة في بنها ومن هنام اكمال طريقهم" وحين سئل عن السبب قال:"مظاهرات وقطع طريق فى المحلة"، في العادي كان هذا الأمر سيضايقني ويشغل بالي طوال الطريق إلى بنها، لكن ما حدث أننى لم أكترث،وأكملت قراءة إلى أن قاطعتني الجالسة جواري:"أنا بحسد اللي بيقروا، أصل من كتر المذاكرة ،ما بقاش لي خلق ع القراية،أصل أنا دكتورة"،ابتسمت ورددت بجملة واحدة:"وأنا صيدلانية!" وعدت للكتاب، قالت:"يبقي بتحبي القراية"،ربما لم أنظر لها ،لااذكر،لكن ظني كان في محله، كانت جملها تلك محاولة لفتح مجال لحوار لا غرض له سوى الفراغ الذي تعانيه من معرفتها بطول الطريق،وعدم وجود خطة لتمضية ذلك الوقت سوى الكلام، وربما عدم نظري لها هو ما جعلها تقضم تفاحة،ثم تأكل بعض اللب، ثم مضغ العلكة،وكلها عزمت بها عليّ،وفي كل مرة كنت أعتذر،ولا أعرف كيف كنت منفصلة في فقاعة من كلمات درويش عن تلك الملاحاة والمعارك التي كانت بين الراكبين فيما يخص يوم 30 يونيو، ربما هي الجملة التى أطلقها أحدهم "مرسي زى يوسف الصديق" ،هي ما بدات كل الجدل حتى الوصول إلى بنها حيث كانت محطته،وربما حينها خرجت من الفقاعة غفقط لأعرف أي طريق سيسلك القطار وغن كان على المغادرة،لكنه أكمل طريقه المعتاد، وحين غادرت السيدة في قويسنا جلس مكانها شخص آخر كان قد بدأ بخطة قضاء وقته في القطار بفتح حديث مع الفتاتين الجالستين في ذات الصف والذي يفصل بينهما الممر، ربما هذا الحوار الذي لا ينبأ إلا عن نتيجة اجتماع الفراغ والتفاهة بين ثلاثة اشخاص هو ما غاظني،وشتت انتباهي عن الكلمات، كنت اريد أن يصل القطار بأسرع ما يكون، والمتبقي في العادة لم يكن يزيد على مسيرة ثلث ساعة قطعها في أكثر من نصف ساعة، وفارق التوقيت هذا كان مقيتًا بالفعل، فلنقل أنني لم اكن انتبه إلا إلى ما يضايقني في الحديث، سألهم على أسمائهم والح في معرفتها ثنائية بينما عرف نفسه بجملة قصيرة:"أخوكم أحمد"، وحدثهم عن "أن الزي الرسمي يفضل أن يكون كحليًا أو اسود،ولو كان معه اللابتوب كان أراهم صورته بالبذلة الكحلية والقميص ذو اللون ال.."وحاول وصف اللون،والفتاة ياسمين تساعده، وكان من الممكن أن يصرح باللون،لكنه أشار من طرف خفي إلى اللون الذي أرتديه مع السود، ففهمنه وضحك ثلاثتهم! وحين وصلت كنت أشفق عليهم كلية،وعلى كل المصريين ممن يتحلون بالتفاهة والفراغ ويحاولون تضييع الوقت باي طريقة،ولو على حساب الآخرين، عرفت حينها أنني غادرت باريس حين فقأوا فقاعة تركيزي،وأنني عدت لمصر ام الدنيا.