نصحتها حين قالت "عمق ما بروحي أفتقد الغوص فيه" بالكتابة،نصحتها بما اغالب نفسى عليه منذ حين،لحتى قررت فى لحظة ما الإسبوع الماضى اعتزال الكتابة نهائيًا، لم يكن قرارى هذا سوى انفعال لحظى آخر،من سلسلة متعاقبة طويلة من الانفعالات التى لا تُلمح إلا فى طيات النفس،والقرار اللحظى هذا ما هو إلا محاولة لجعلها ملموسة فى حيز الأفعال.
والغريب أن هذا الحيز لم يتسع سوى لمجال القرار ولم ير النور ،إذ تراجعت عنه فى ذات اليوم وربما فى ذات الساعة،والأغرب أننى يومها كنت أحدث ذاتى:"اليوم ستصلنى أخبار مفرحة،هذا ما يبشر به الطقس اليوم"،ولم تكن أى أخبار مفرحة، فقط أفكار كثيرة، منها مثلًا :لاباس بالمشى ما تبقى من الطريق وصولًا إلى جهتى،ولابأس لو تأخرت نصف ساعة أخرى عن موعدى،على الأقل ساصل وأنا حالى أفضل،وقد كان،لكننى لا أستطيع الآن تذكر كل الأفكار التى عبرت ذهنى حينها،ولكن منها مكا هو لافت فعلًا،لدرجة أننى تمنيت حينها وجود جهاز ما يتصل بذهن المرء يسجل كل ما يدور بخلده،لأن الفكرة المارقة فى لحظة مماثلة تتوه وسط زحام الطريق وأبواق السيارات المنتظرة إشارة المسير،وهو ما ذكرنى بعبارة قالها فورستر لصديقه وهو يحثه على الكتابة:"لا تفكر ،اكتب، انقر الحروف دون أن تنتقى الكلمات والأفكار،اقرأ الكلمات آجلًا،فقط دع الكلمات تنطللق"
من اللحظات اللافتة مثلًا حينها،كنت أسير بمحازاة أحد الكبارى ولا أذكر تحديدًا ما سبب نظرى،ربما كالعادة كنت أتأملها السماء حين لمحت منديلًا ورقيًا يهفة إلى أسفل،كنت حينها أشعر بتواصل شديد مع كل ما حولي، فكرت فى المنديل، فيم مصيره؟، وهل لاحظه أحد غيرى؟،وهل هناك غيرى ممن يترجل هذا الشارع؟،ظل بصرى معلقًا به بينما لازلت أسير،كان عندى فضولًا حقيقيًا ،حتى جاءت تلك اللحظة التى رسى فيها المنديل عند قدمىّ تمامًا،كانت لحظة رضا حقيقية،ما السبب؟ ربما هى فكرة التواصل مع الأشياء، ربما هو فراغ ما بروحى امتلأ، ربما هى تفاهة منى،لايهم، المهم هو أثر لحظة مماثلة،لحظة تمحو آلاف اللحظات التى تجعلك تكره نفسك وكذا كل من حولك، ربما هى لحظة كنتها على حقيقتى دون تجمل أمام أحد ،لأنه لم أهتم بأحد فى الطريق سوى هذا المنديل!، ولن أنكر أننى مؤخرًا سأمت كل ما هو بشرى، سأمت من تدخل الجميع فيما لا يعنيهم،أن ينظر الجالس جوارى فى الحافلة فى ساعة يده إثر انتهائى من مكالمة تليفونية طويلة مع صديقة ،قائلًا: لقد تحدثتِ لقرابة ساعة فى الهاتف،معك دقائق مجانية؟" ، ابتسمت كعادتى فى مواقف مماثلة،واكتشفت بعدها أنه لم يكن وحده المتابع للحديث الذى طال الخاص والعام ولم يكن فيه أبدًا ما يمكن التوقف عليه سوى الثرثرة، ولم سعنى سوى التعجب بعد عودتى لكتابى من كون البشر قد يضيعون الكثير من الوقت فقط فى ترصد الآخرين،فقط لأنهم لم يفكروا فى أى شئ آخر لفعله!
وهذه الثرثرة حتى لا تبدو مترابطة من أى جانب،فقط هى كلمات أنقرها هنا ،بعد تردد طويل من فتح الصفحات البيضاء التى تطالعنى ولا أملك أن أفضى إليها بأى شئ،ولم أفضى أصلًا؟
منذ ساعات وأمام صفحة بيضاء مماثلة كنت أود أن أكتب عن الكتابة فى حد ذاتها،كانت الفكرة اللحظية حينها :الكتابة شجاعة أم جبن؟
واستقر فى ذهنى شئ واحد،الكتابة ليست أيها،ولا هما معًا!
الكتابة رحلة بحث متواصل عن كل شئ، أبحث عنى فى الكلمات والأفكار،وكلما استقررت على حقيقة واحدة عن ذاتى أجدها غير حقيقية فى النهاية ،الكتابة مس من الجنون،يجعلك تجرى وتلهث وأنت تحاور نفسك وربما وأنت تحاور كل من تريد أن تحاور بداخلك!
وإما أن تفعل ذلك حينها وإما أن تنسى الأمر برمته،لا مجال لإرجاء الكتابة لحين تحسن المزاج ولا حتى لحين تقلبه،فالآن مثلًا لا رغبة لدى إطلاقًا فى كتابة الرواية التى تحدث عنها كثيرًا لحتى استهلكت كل طاقتى فى الحديث عنها وحسب،ولا شئ منها سوى ثلاث وريقات بائسة، وكل الأفكار التى كنت أرجأها تبخرت فى مكان ما لا أعرفه، بينما زحفت أفكار أخرى ربما أيضًا لها نفس النهاية!
فيم فكرت حين فتحت هذه الصفحة من الأساس،لا أعرف، كل ما أعرفه الآن أننى أفضل.
هناك تعليق واحد:
الكتابة أفضل :)
ثرثري دائمًا
إرسال تعليق