عزيزي نيكوس:
لن تصدقني إذا قلت أنني أفتقدك، لأننا لم نلتق من قبل، ولأنني لم أعش زمانك أصلًا، لكن الحقيقة أنني رافقتك في أكثر من رحلة في حياتك، رافقتك في ابداعاتك التي لا مثيل لها، كان أولها "زوربا"، فلنقل أنني لم أفتن كثيرًا بقناعات زوربا، ربما كمثلك، وهي أيضًا أصابتني بالدهشة، وهذا لا يتعارض مع كوني أحببت زوربا جدًا لدرجة أنني اقتنيت منذ أيام قلائل نسخة من ترجمة أخرى لذات الكتاب، ولا أنا لم أملك النسخة الأولى، لكتها كانت محاولة صديقة للتسرية عني، ولم أستطع مقاومة إغراء اقتناء نسخة خاصة بي، نسخة أقرأها ما قريب، بينما زوربا يدهشني من جديد، وهذه النسخة بالمناسبة أرهقتني لأنها وما اقتنيت أيضًا كانت بمثابة عبء أثقل كاهلي يومها، لكنه أيضًا عبء محبب وواجب إخفاءه جيدًا، وإلا تعرضت للمعتاد من التأنيب بشأن كتب جديدة!
هل لازلت تتعجب من افتقادي لك؟
كان العمل الذي قرأته لك بعده "الإغواء الأخير للمسيح"، وهذا عمل يجعل من يقرأه يتشرذم، هذا كان شعوري على الأقل، وحين أفكر في هذا الأمر الآن أعرف جيدًا أن السبب هنا ليس براعتك فحسب في الوصف، بل لأنك تدرك كنه النفس البشرية، فترسم جميع نفوس شخوصك بريشة تجعل المشهد أكثر من جلي، تجعل القارئ متعاطفًا مع الجميع بلا استثناء، حتى لو كانت قناعاته المسبقة مبرمجة سلفًا على غير ذلك، وربما لو قرأ أحد الشكاكين رسالتي تلك لنعتك -بما يخالفك تمامًا- بأنك متآمر وعديم الإيمان بل وخطر على قناعات الآخرين! ، ولقد اتهمت بالفعل بذلك مرارًا وعلى طوال العقود وحتى يومنا هذا، ولكن الحقيقة أنك إنسان لا غبار عليه، كنت أعرف هذا حتى قبل أن أطلع على ما كتبته عنك هيلين رفيقتك العزيزة في كتابها البديع "المنشق"..
لقد استمتعت برسائلك لها إلى حد لا تتخيله، وأنا حين أكتب لك الآن، أكتب بناء على طلب منك لها لإن تكتب لك بينما أنت بعيد عنها، لقد قاومت رغبتي تلك كثيرًا لو تعلم، لكن لم يعد باستطاعتي أن أؤجل هذا أكثر، ليس لشئ سوى أنني شعرت بإلحاح أن أفعل هذا الآن، وربما يبدو هذا غريبًا لأول وهلة، لكن الحقيقة ألا غرابة في الأمر على الإطلاق، أنت تفهم تمامًا البشر وستفهمني تمامًا حين أقول لك الحقيقة: لوهلة أحسست أني هيلين وأنك تكتب لي، فلنقل أنني تمنيت أن أكون كنتها في زمن آخر، والحقيقة أن هذه ليست أول مرة اشعر فيها بذات الشعور، الأولى كانت حينما كتبت عبلة الرويني عن الجنوبي أمل دنقل، وقتها عايشت ذات الحالة ولو أنها هنا معك ومعها أعتى، ربما لأنك تشبه إلى حد كبير الصورة الذهنية التي كونتها عن أحدهم، كان مقربًا وحبيبًا إلي، ونعم: كان!
هل تعرف ما في الفعل الماضي من قسوة!
لا تسيئ فهمي، أنا لا أتحسر على فوات الماضي، ولا أحاكمه، ولا أندم على عيشه، ولا أنتظر شيئًا من المستقبل، لكن من يمكنه أن ينكر يا عزيزي أن الحب بكل أحواله:عسلها ومرها، لا يعوض، أن تشعر بالسعادة الغامرة من أشياء جد بسيطة وصغيرة، وكآبة منكرة من أصغر شئ ولاشئ، هذه الحالة العجيبة من التناقض الذي لا يمكن وصفه ولا تبريره، فقط معايشته!
وكما ترى أنا الآن خارج الحب، هذا ما لم أتخيله أبدًا، هل يصح الوصف أصلًا!؟
الأدق أن أٌقول أنني داخل اللحظة الراهنة، أنا الآن!
وربما تشعر أن هذه جملة ناقصة، لكنها أكثر تمامًا وبلاغة من أي تعبير آخر، أنا أعيش اللحظة الحالية، اللحظة التي أنقر فيها هذه الكلمات، والتي تتزامن مع رغبتي الملحة في الحديث إليك الآن، وأنت هناك في البرزخ الذي لا يشكل أي مانع من وجهة نظري.
وهكذا فأنا لا أنظر خلفي ولا أتطلع أمامي، لاأحزن من الماضي وعليه، ولا أتطلع للمستقبل وأقلق منه، وهذا ربما يشعرني بجنون تام!
هل يلخص كل ما قلته سابقًا عذاب البشرية الآن؟
ربما!
فالبشرية الآن ياعزيزي تعاني كما تنبأت تمامًا بقرون وسطى ممتدة لمئات من السنوات، وسبب معاناتها هو الحب والزمن، هذا تفسيري المتواضع للأمر، فالبشر إما يعيشون الماضي أو يتطلعون للمستقبل وفي الحالتين إما باحثون عن الحب أو هاربون منه!
وكم من جرائم ترتكب في هذا الإطار ولاأحد يلحظ أو يفهم!
لن يضايقني أبدًا أن ينتعتني القارئ المتشدق السابق ذكره بالجنون، فهذا ما لا يمكنني إنكاره، لكن لا يدرك الجميع الحقائق بسهولة، لا يدرك أحدهم ببساطة أن داعش، مثلًا تطبق نظريتي السالفة الذكر حرفيًا، وأن الحروب في كل الأزمنة أيضًا تفعل!
ولكنك تعلم كمثلي تمامًا أن النظرية ليست المشكلة، المشكلة في التطبيق، المشكلة في ذلك النابض بصدورنا والذي إما ينسبنا للإنسانية أو ما دونها!
شكرًا عزيزي نيكوس على رحابتك التي انتقلت لي عبر الكلمات، شكرًا عل الحياة التي تنبض من كلماتك، شكرًا لأنك إنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق